بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول
الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فهذه أحد عشر
مبحثًا في التعزية تتضمن حكمها وحكمتها، ووقتها ومدتها، صيغتها والجلوس لها، وغير
ذلك من المباحث المحررة من أقوال أهل العلم رحمهم الله، رأيت مناسبة جمعها
وترتيبها واستخلاصها من مظانها؛ حتى تتكيف نفس القارئ عليها مجتمعة ومرتبة، أسأل
الله العلي القدير أن يتحقق المقصود منها، فإن تكن ذا فائدة فذلك فضل الله
وتوفيقه، وإن تكن الأخرى فمن نفسي وأستغفر الله.
* * * *
المبحث الأول
معنى التعزية
التعزية: مصدر الفعل: عزى، يقال: عزيته
تعزية، والعزاء: الصبر عن كل ما فقد الإنسان، يقال: عزيت فلانًا أعزيه تعزية أي
آسيته وضربت له الأسى، وأمرته بالعزاء فتعزى تعزيًا أي: تصبر تصبرًا، وتعازى
القوم: عزى بعضهم بعضًا. ويقال: إنه لعزي صبور إذا كان حسن العزاء على المصائب([1]).
ويعرف الفقهاء التعزية بتعاريف متقاربة
لا تخرجها عن معناها اللغوي.
جاء في رد
المحتار([2]): «تعزية أهل
الميت: تصبيرهم والدعاء لهم».
وفي شرح الخرشي ([3]): «التعزية هي الحمل على الصبر بوعد
الأجر والدعاء للميت والمصاب».
وقال النووي ([4]): «هي التصبير وذكر ما يسلِّي صاحب
الميت ويخفف حزنه ويهون مصيبته».
وجاء في كشاف القناع ([5]): «التعزية: التسلية وحث المصاب على
الصبر بوعد الأجر والدعاء للميت إن كان مسلمًا».
* * * *
المبحث الثاني
حكم التعزية
استحباب تعزية أهل الميت محل اتفاق بين
العلماء رحمهم الله.
قال الوزير ابن هبيرة ([6]): «واتفقوا على استحباب تعزية أهل
الميت».
وقال الموفق ([7]): «لا نعلم في هذه المسألة خلافًا، إلا
أن الثوري قال: لا تستحب التعزية بعد الدفن؛ لأنها خاتمة أمره»
أصل المشروعية:
1- ما رواه عبد الله بن مسعود t
أن النبي r، قال: «من عزى مصابًا فله
مثل أجره»([8]).
2- وعن أبي برزة t
عن النبي r قال: «من عزى ثكلى كُسي
بُردًا في الجنة»([9]).
3- عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي
الله عنهما أنه r، قال لفاطمة رضي الله عنها: «ما
أخرجك يا فاطمة من بيتك؟ قالت: أتيت أهل هذا الميت فترحمت إليهم ميتهم أو عزيتهم
به»([10]).
4- عن عمرو بن حزم t
عن النبي r قال: «ما من مؤمن يُعزي
أخاه بمصيبته إلا كساه الله عز وجل من حُلل الكرامة يوم القيامة»([11]).
* * * *
المبحث الثالث
الحكمة من التعزية
في التعزية ثواب كثير ومصالح جمة؛ من
أهمها: تهوين المصيبة على المعزى وتسليته عنها، وحضُّه على التزام الصبر واحتساب
الأجر، والرضا بالقدر والتسليم لأمر الله، والدعاء بأن يعوض الله المصاب من مصابه
جزيل الثواب، والدعاء للميت والترحم عليه والاستغفار له، وترغيب أهل الميت بالأجر
الجزيل؛ ليكون سدًا لغوصهم في القلق وفتحًا لباب التوجه إلى الله، وأن يُنهوا عن النياحة
وشق الجيوب وسائر ما يذكر المصاب الأسف ويتضاعف معه الحزن والقلق، وكان أهل
الجاهلية ابتدعوا أمورًا تفضي إلى الشرك بالله فاقتضت الحكمة سد ذلك الباب ([12]).
واستحباب التعزية معضود باشتمالها على
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي داخلة في قوله تعالى: }وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى{([13])، وهذا – على ما ذكر النووي ([14]) – أحسن ما يستدل به في التعزية.
المبحث الرابع
وقت التعزية
التعزية جائزة قبل الدفن وبعده؛ لعموم
ما تقدم، وإلى ذلك جنح جمهور العلماء ([15]).
ونُقل عن الثوري وغيره([16]) القول بكراهة التعزية بعد الدفن؛ لأنه
خاتمة أمره، والتعزية تسلية؛ فينبغي أن تكون وقت الصدمة التي يشرع الصبر عندها.
ولعل الأرجح ما ذهب إليه الجمهور؛
فالمقصود بالتعزية تسلية أهل المصيبة وقضاء حقوقهم والتقرب إليهم، والحاجة إليها
بعد الدفن كالحاجة إليها قبله.
وإذا ثبت جواز التعزية قبل الدفن وبعده
فإن الأولى أن تكون بعد الدفن؛ لأن أهله قبل الدفن مشغولون بتجهيزه، ولأن وحشتهم
بعد دفنه لفراقه أكثر، فكان ذلك الوقت أولى بالتعزية إلا أن يظهر فيهم جزع ونحوه
فتعجل التعزية ليذهب جزعهم أو يخف([17]).
المبحث الخامس
مدة التعزية
مدة التعزية ثلاثة أيام بعد الدفن على
التقريب لا على التحديد، وتكره التعزية بعد الثلاثة على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء
([18]) لإذن الشارع في الثلاثة بقوله r:
«لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على
زوجها أربعة أشهر وعشرا»([19]).
ولأن المقصود من التعزية تسكين قلب
المصاب والغالب سكونه بعد الثلاثة فلا يجدد له الحزن.
ويستثني الجمهور من ذلك ما إذا كان
المعزي أو المُعزى غائبًا حال الدفن واتفق رجوعه بعد الثلاثة، مع استظهار بعضهم ([20]) أن الحاضر الذي لمن يعلم بمنزلة
الغائب.
وحُكي عن بعض الشافعية([21]) وبعض الحنابلة([22]) أنه لا أمد للتعزية؛ بل تبقى بعد
ثلاثة أيام وإن طال الزمان؛ لأن الغرض الدعاء، والحمل على الصبر، والنهي عن الجزع
وذلك يحصل مع طول الزمان.
والمختار: أن لا تفعل التعزية بعد
ثلاثة أيام إلا فيما تقدم استثناؤه؛ لوجاهة ما احتج به الجمهور من النص والنظر.
* * * *
المبحث السادس
تكرار التعزية
يكره تكرار التعزية؛ فلا يعزي عند
القبر من عزى قبل ذلك.
ولعل حكمة ذلك حصول المقصود بالتعزية
الأولى؛ فلا حاجة إلى التعزية الثانية؛ لما فيها من استدامة الحزن ([23]).
* * * *
المبحث السابع
تعميم أهل المصيبة بالتعزية
يستحب أن يُعم بالتعزية جميع أهل
المصيبة كبارهم وصغارهم، ويخص خيارهم وذو الضعف منهم عن تحمل المصيبة؛ لحاجته
إليها ([24]).
واتفق العلماء ([25]) على أن الرجل لا يعزي المرأة الشابة
إلا إذا كانت من محارمه خشية الفتنة.
وذكر العلماء ([26]) أن الحق لا يُترك لباطل؛ فيعزى من شق ثوبه
أو نحو ذلك كغيره.
* * * *
المبحث الثامن
تعزية الكافر
اختلف العلماء- رحمهم الله- في تعزية
أهل الذمة؛ فجنح بعض الحنفية ([27]) والشافعية([28]) إلى جواز التعزية، وتوقف الإمام أحمد
رحمه الله ([29]) عن تعزية أهل الذمة، وخرج بعض أصحابه
التعزية على العيادة، وفيها روايتان:
إحداهما: النهي عن عيادتهم، فكذلك تعزيتهم ([30])؛ لما رواه أبو هريرة t
أنه r قال: «لا تبدؤوا اليهود ولا
النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه»([31]).
والتعزية في معنى البدأة بالسلام.
الرواية الثانية: جواز عيادة أهل الذمة
وعليه فلا بأس من تعزيتهم.
وجه الرواية: ما رواه أنس t
قال: «كان غلام يهودي يخدم النبي r فمرض، فأتاه النبي r
يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: «أسلم». فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له:
أطع أبا القاسم r فأسلم، فخرج النبي r
وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه من النار»([32]).
والذي يظهر- والله أعلم- عدم جواز
التعزية للذمي، إلا إذا ترتب عليها مصلحة راجحة؛ كتأليفه ورجاء إسلامه كما هو
الحال في عيادته.
المبحث التاسع
تعزية المسلم بالكافر
يجوز تعزية المسلم عن ميت كافر، وبذلك
قال الحنفية ([33]) والشافعية ([34]) والحنابلة في الصحيح من المذهب ([35]).
ونُقل عدم الجواز عن الإمام مالك ([36]) والحنابلة في إحدى الروايتين ([37]).
ولعل الأظهر ما ذهب إليه الجمهور من
الجواز؛ لترجحه بما تقدم من عموم النص.
* * * *
المبحث العاشر
صيغة التعزية
التعزية: التسلية وحثُّ المصاب على
الصبر بوعد الأجر، والدعاء للميت إن كان مسلمًا والدعاء للمصاب.
والذي تدل عليه أقوال العلماء رحمهم
الله ([38]) أنه لا حجر في لفظ التعزية ولا تعيين؛
فبأي لفظ عزاه حصلت.
قال الموفق ([39]): لا نعلم في التعزية شيئًا محدودًا؛
إلا أنه رُوي أن النبي r عزى رجلاً فقال: «رحمك الله
وآجرك»([40]).
وذكر النووي ([41]) أن أحسن ما يعزى به ما ثبت في الصحيح
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: «أرسلت إحدى بنات النبي r
إليه تدعوه وتخبره أن صبيًا لها أو ابنًا في الموت فقال للرسول: ارجع إليها
فأخبرها أن لله تعالى ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمُرْها فلتصبر
ولتحتسب»([42]).
فهذا الحديث من أعظم قواعد الإسلام
المشتملة على مهمات كثيرة من أصول الدين وفروعه، والآداب والصبر على النوازل كلها
والهموم والأسقام وغير ذلك من الأعراض.
ومعنى: «أن لله تعالى ما أخذ»: أن
العالم كله ملك لله تعالى فلم يأخذ ما هو لكم بل أخذ ما هو له عندكم في معنى
العارية، ومعنى «وله ما أعطى»: أن ما وهبه لكم ليس خارجًا عن ملكه؛ بل هو له
سبحانه يفعل فيه ما يشاء، «وكل شيء عنده بأجل مسمى» فلا تجزعوا؛ فإن مَن قبضه قد
انقضى أجلُه المسمى؛ فمُحالٌ تأخُّرُه أو تقدُّمُه عنه، فإذا علمتم هذا كله
فاصبروا واحتسبوا ما نزل بكم والله أعلم([43]).
إذا تقرر ذلك فقد استحب طائفة من
العلماء ([44]) أن يقال في تعزية المسلم بالمسلم: «أعظم
الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك».
والمشهور عند الشافعية ([45]): تقديم الدعاء للمُعزَّى؛ لأنه
المخاطب فبديء به، وقيل: يقدم الدعاء للميت فيقول: غفر الله لميتك وأعظم الله أجرك
وأحسن عزاءك، وقيل: يتخير.
وإذا عزي مسلمٌ بكافر قال: «أعظم الله
أجرك وأحسن عزاءك». ويمسك عن الدعاء للميت؛ لأن الدعاء والاستغفار له منهي عنه.
أما تعزية الكافر فتقدم ترجيح المنع
منها؛ إلا إذا ترتب عليها مصلحة شرعية.
وقد رأى من أجاز تعزية الكافر من
الشافعية ([46]) والحنابلة ([47]) أن يقال في تعزيته بالمسلم: «أحسن
الله عزاءك وغفر لميتك».
وفي تعزيته بالكافر: «أخلف الله عليك
ولا نقص لك عددك». وذلك من أجل تكثير الجزية المأخوذة منهم.
قال النووي([48]) رحمه الله: وهذا مشكل؛ لأنه دعاء ببقاء
الكافر ودوام كفره والمختار تركه.
أقول: وما صرح به النووي ظاهر الوجاهة.
أما رد المُعزَّى فلا حجر فيه ولا
تعيين أيضًا، وقد استحب الحنابلة([49]) أن يقال: «استجاب الله دعاءك ورحمنا
وإياك».
* * * *
المبحث الحادي عشر
الجلوس للتعزية
لم يكن من هدي النبي r
أن يجتمع للعزاء ويقرأ له القرآن؛ لا عند القبر ولا غيره، وكل هذا بدعة حادثة
مكروهة ([50]).
لذلك صرح الجمهور من العلماء ([51]) بكراهة الجلوس للعزاء لما في ذلك من
تجديد الحزن واستدامته، والمشروع: أن ينصرف الناس إلى شغلهم ومصالحهم بعد الدفن.
وهذه كراهة تنزيه إذا لم يكن معها محدث
آخر، فإن ضم إليها أمر آخر من البدع - كما يحصل في المآتم من المنكرات – كان
حرامًا من قبائح المحرمات ([52]) فما اعتاده الناس من الجلوس للتعزية
حتى ظنوه شيئًا، وأنفقوا فيه الأموال الطائلة وقد تكون من تركة اليتامى، وعطلوا
فيه مصالحهم، ولاموا من لم يشاركهم ويفد إليهم أمر غير مشروع، وهو من البدع
المحدثة التي ذمها r ([53]).
وفي مقابل ما قال به جمهور العلماء ذهب
بعض الحنفية([54]) والمالكية ([55]) إلى جواز الجلوس للتعزية.
واستدل من قال بالجواز بما روته عائشة
رضي الله عنها قالت: «لما جاء رسول الله r
قتل ابن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة جلس رسول الله r
يعرف فيه الحزن...»([56]).
وأجيب ([57]): بأن جلوسه r
لم يكن مقصودًا للتعزية؛ فلم يثبت ما يدل عليه.
وقال بعض الحنابلة ([58]): إنما المكروه: المبيت عند أهل الميت،
وأن يجلس إليهم من عزى مرة، أو يستديم المعزي الجلوس زيادة كثيرة على قدر التعزية.
(اعداد:مساعد بن قاسم الفالح)
([1]) ينظر: مختار الصحاح ص431. دار الكتاب
العربي، القاموس المحيط 4/364 فصل العين باب الواو، دار الجيل.
لسان العرب 15/52،
دار صادر. المصباح المنير ص408، المكتبة العلمية.
قال أبو عيسى: هذا
حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث علي بن عاصم.
سنن ابن ماجه: كتاب
الجنائز. باب ما جاء في ثواب من عزى مصابًا 1/511. دار إحياء التراث العربي.
في الزوائد: في
إسناده قيس أبو عمارة، ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الذهبي في الكاشف: ثقة. وقال
البخاري: فيه نظر، وباقي رجاله رجال الصحيح. وقال النووي: إسناده حسن. ينظر:
الأذكار النووية ص126. منشورات دار الملاح.
صحيح مسلم: كتاب
الطلاق. باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة وتحريمه في غير ذلك إلا ثلاثة أيام 4/202،
طبعة أسطنبول.
اضف تعليق
0 comments: