اشترط استاذ مادة علم الاجتماع في إحدى الجامعات الماليزية على طلابه, أن يقوم كل طالب منهم بالعمل على إسعاد إنسان واحد طوال الفصل الدراسي المقرر لدراسة المادة, وذلك للحصول على درجة هذه المادة, وفرض الأستاذ على طلابه الثلاثين أن يكون هذا الإنسان من خارج محيط أسرته, وأن يقدم عرضاً مرئياً في نهاية الفصل الدراسي أمام زملائه عمّا قام به من جهود لإسعاده, وقد اتفق أستاذ المادة مع إحدى الشركات لرعاية الفكرة, لتكريم أفضل عشر مبادرات طلابية, وقد تمكن الطلاب الثلاثين في نهاية الفصل الدراسي من النجاح, بل والحصول على الدرجة الكاملة في هذه المادة, ولصعوبة اختيار العشر مبادرات الأفضل, التي سيتم تكريم أصحابها من قبل الشركة الراعية, لجأ الأستاذ للتصويت من قبل الطلاب لاختيار أفضل عشر مبادرات, ليقوم أصحابها بتقديم عروضهم على مسرح الجامعة , والتي سيحضرها زملاؤهم من طلاب الجامعة بالإضافة إلى أولياء أمور الطلاب, وكانت إحدى المبادرات العشر الفائزة لطالب ماليزي, استهدف أحد طلاب الجامعة من الجنسية الهندية, ابتعثه والده لدراسة الطب في ماليزيا, وقد اختار صاحب المبادرة هذا الطالب تحديداً, لأنه شعر أنه لا يملك أصدقاء في ماليزيا, فهو متجهم وحزين في أغلب أوقاته, فلا يتحدث مع أحد, ولا يتحدث معه الآخرون, وهذا ما دعا الطالب صاحب المبادرة إلى استهداف هذا الطالب الهندي تحديداً.
ولقد تمثلت المبادرة في هدايا يومية بدأها برسالة وضعها تحت باب شقة ذلك الطالب, جاء فيها: كنت أتطلع أن أصبح طبيباً مثلك, لكنني ضعيف في المواد العلمية, وأنت قد رزقك الله ذكاء وعزيمة, وستسهم في خدمة البشرية, فهنيئاً لك, وفي اليوم الثاني اشترى صاحب المبادرة قبعة ماليزية, ووضع بداخلها الرسالة التالية: “أتمنى أن تنال هذه القبعة استحسانك” ووضعها بجوار باب شقة الطالب الهندي, وفي مساء اليوم التالي شاهد صاحب المبادرة زميله الطالب الهندي, يجوب أحد شوارع المدينة لابساً القبعة الماليزية وتعلو وجهه ابتسامة عريضة, بعد أن كان قبل ذلك كئيباً ومنطوياً, بل وعندما دخل على صفحته في الفيس بوك, وجد صورة ضوئية للرسالة الأولى التي تشيد بقدراته العلمية وتخصصه في الطب الذي يتمناه الكثير, وكذا صورة شخصية له, وهو يلبس القبعة الماليزية, ووجد تعليقاً لوالد ذلك الطالب الهندي, قال فيه: حتى زملائك في الجامعة – يا بني – يتوقعون منك أن تصبح طبيباً حاذقاً, فلا تخذلهم واستمر في تحصيلك.
وهنا وجد الطالب صاحب المبادرة أن جهوده بدأت تؤتي ثمارها, فاستمر في تنويع هداياه, دون أن يكشف عن هويته, واستمرت معها سعادة الطالب الهندي وابتسامته العريضة, ومعها أخذ أصدقاؤه في الفيس بوك وفي تويتر في تزايد مستمر, إذ أنه عودهم على أخبار الهدية اليومية اللغز! حتى كان بعضهم يسأل: وما هدية الغد يا ترى؟! وانتشر خبر هذه الهدايا بين زملائه في الجامعة أيضاً, مما دعا الجامعة إلى عقد لقاء مع هذا الطالب الهندي خلال أحد أنشطتها, ليقوم بشرح فكرة الهدية ومدى تأثيرها في سعادته, إذ أخرجته من عزلته التي كان يعيشها, كما ذللت له التحديات الأكاديمية التي كان يشكو منها في دراسته, فتغير بسببها قرار كان يراوده بترك دراسة الطب والعودة إلى بلده الهند, وأبان مدى تفاعل أسرته وأصدقائه في قنوات التواصل الاجتماعي مع هذه الفكرة.
ولقد لعب الطالب الماليزي صاحب المبادرة دوراً محورياً في حياة هذا الطالب الهندي, إذ تغيرت حياة ذلك الأخير من شخص حزين وانطوائي إلى إنسان اجتماعي مبتسم, وإلى طالب حريص ومجتهد, وذلك بفضل تلك الهدايا اليومية المتواضعة.
ورغم اجتاز طالب علم الاجتماع هذه المادة, إلا أنها تحولت لديه إلى عادة يومية, فقبل أن يخلد إلى فراشه, أما أن تجده يكتب رسالة لشخص, أو يعمل على تغليف هدية, كما تبناها كمشروع حياة, فحولها إلى عمل مؤسسي, يسهم في استدامة فكرة هذه المبادرة, فاتفق مع إحدى شركات الأجهزة الإلكترونية على رعاية هذا المشروع, واستقطب له عدداً من المتطوعين للعمل تحت مظلة واحدة, ليرسموا السعادة في نفوس عدد أكبر من مواطني ماليزيا وزائريها, ولقد شجعت هذه المبادرة الإنسانية بينهم أجواء مفعمة بالمفاجآت, فالجميع كان يحاول أن يقدم عملاً إنسانياً مختلفاً ومميزاً, يرسمون من خلاله السعادة على حياة إنسان يجدونه بائساً.
فما أحوجنا إلى اللياقة الاجتماعية, والتي هي فن من فنون معاملة الآخرين, فالإنسان ينبغي علية أن يعيش ليسعد الآخرين, وسيبعث له الله من يعيش ليسعده, فما جزاء الإحسان إلا الإحسان, فتخيل أن كل شخص لديه لافتة غير مرئية تتدلى من عنقه مكتوب عليها: اجعلني اشعر بالأهمية, فلا تنس هذه الرسالة عند تعاملك مع الناس, ومن المبادرات الاجتماعية الجميلة, أن قائد إحدى المدارس قام بمبادرة خصّ بها عمال النظافة بالمدرسة, إذ جعل فقرات الإذاعة المدرسية في أحد الأيام باللغة البنجلاديشية, حيث أظهروا فيها التقدير والاحترام لعمال النظافة بمدرستهم من هذه الجنسية, فارتسمت على محيا العمال السعادة والسرور, فازداد تبعاً لذلك إخلاصهم وانتمائهم لكيان هذه المدرسة ولمنسوبيها, فلنحرص على إسعاد الآخرين وحسن العلاقة معهم, وقد قيل: عاشروا الناس معاشرة إن غبتم حنوا إليكم, وإن متم بكوا عليكم, فما أحوجنا إلى أن نكون مصدر سرور لبعضنا, وفي الحديث الشريف ” أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال يا رسول الله: أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس, وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم ….. ” (الطبراني: 6/139 ), وفي الحديث : ” تهادوا تحابوا….” (الطبراني: 7/190).
وذووا الأرحام – بلا شك – هم أولى الناس بإدخالنا السرور على نفوسهم, وقد جاء في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خيركم خيركم لأهله, وأنا خيركم لأهلي. (حلية الأولياء: 7/157), وقال الشوكاني: ترى الرجل إن لقي أهله كان أسوأ الناس أخلاقاً وأقلهم خيراً, وإن لقي غيرهم لانت عريكته وكثر خيره, ولا شك أن من كان هذا شأنه فهو المحروم, وقال ابن عبد البر: ثلاث إذا كن في الرجل لم يشك في عقله وفضله: إذا حمده جاره, وقرابته, ورفيقه.
فاعمل على أن تكون مصدراً لابتسامة إنسان بائس, ولا تكن مصدراً لزيادة حزنه وشقائه, فاهتمامك بشخص يجعله يحب وجودك, وتجاهلك له يجعله ينفر منك, فاللهم احفظ من أشعرنا بأننا أجمل ما لديه صدقاً وليس تصنعاً.
بقلم
د . علي أحمد الشيخي
اضف تعليق
0 comments: